فصل: ذكر يوم عماس:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر يوم أرماث:

لما عبر الفرس العتيق جلس رستم على سريره وضرب عليه طيارة وعبى في القلب ثمانية عشر فيلاً عليها صناديق ورجال وفي المجنبتين ثمانية وسبعة، وأقام لجالينوس بينه وبين ميمنته، والفيرزان بينه وبين ميسرته وبقيت القنطرة بين خيلين من خيول المسلمين وخيول المشركين، وكان يزدجرد قد وضع بينه وبين رستم رجالاً على كل دعوة رجلاً، أولهم على باب إيوانه وآخرهم مع رستم، فكلما فعل رستم شيئاً قال الذي معه للذي يليه: كان كذا وكذا، ثم يقول الثاني ذلك للذي يليه، وهكذا إلى أن ينتهي إلى يزدجرد في أسرع وقت. وأخذ المسلمون مصافهم. وكان بسعد دماميل وعرق النسا فلا يستطيع الجلوس، وإنما هو مكب على وجهه في صدره وسادة على سطح القصر يشرف على الناس والصف في أصل حائطه، لو أعراه الصف فواق ناقةٍ لأخذ برمته، فما كرثه هول تلك الأيام شجاعة، وذكر ذلك الناس، وعابه بعضهم بذلك فقال:
نقاتل حتى أنزل الله نصره ** وسعدٌ بباب القادسية معصم

فأبنا وقد آمت نساءٌ كثيرةٌ ** ونسوة سعدٍ ليس فيهن أيم

فبلغت أبياته سعداً فقال: اللهم إن كان هذا كاذباً وقال الذي قاله رياء وسمعةً فاقطع عني لسانه! إنه لواقفٌ في الصف يومئذ أتاه سهم غرب فأصاب لسانه فما تكلم بكلمة حتى لحق بالله تعالى. فقال جرير بن عبد الله نحو ذلك أيضاً، وكذلك غيره، ونزل سعدٌ إلى الناس فاعتذر إليهم وأراهم ما به من القروح في فخذيه وأليتيه، فعذره الناس وعلموا حاله، ولما عجز عن الركوب استخلف خالد عرفطة على الناس، فاختلف عليه فأخذ نفراً ممن شغب عليه فحبسهم في القصر، منهم: أبو محجن الثقفي، وقيدهم، وقيل: بل كان حبس أبي محجن بسبب الخمر، وأعلم الناس أنه قد استخلف خالداً وإنما يأمرهم خالد، فسمعوا وأطاعوا، وخطب الناس يومئذٍ، وهو يوم الاثنين من المحرم سنة أربع عشرة، وحثهم على الجهاد وذكرهم ما وعدهم الله من فتح البلاد وما نال من كان قبلهم من المسلمين من الفرس، وكذلك فعل أمير كل قوم، وأرسل سعد نفراً من ذوي الرأي والنجدة، منهم: المغيرة وحذيفة وعاصم وطليحة وقيس الأسدي وغالب وعمرو ابن معدي كرب وأمثالهم، ومن الشعراء: الشماخ والحطيئة وأوس بن مغراء وعبدة بن الطبيب وغيرهم، وأمرهم بتحريض الناس على القتال، ففعلوا.
وكان صف المشركين على شفير العتيق، وكان صف المسلمين مع حائط قديس والخندق، فكان المسلمون والمشركون بين الخندق والعتيق، ومع الفرس ثلاثون ألف مسلسل وثلاثون فيلاً تقاتل، وأمر سعد الناس بقراءة سورة الجهاد، وهي الأنفال، فلما قرئت هشت قلوب الناس وعيونهم وعرفوا السكينة مع قراءتها. فلما فرغ القراء منها قال سعد: الزموا مواقفكم حتى تصلوا الظهر، فإذا صليتم فإني مكبر تكبيرة فكبروا واستعدوا، فإذا سمعتم الثانية فكبروا والبسوا عدتكم. ثم إذا كبرت الثالثة فكبروا ولينشط فرسانكم الناس، فإذا كبرت الرابعة فازحفوا جميعاً حتى تخالطوا عدوكم وقولوا لا حول ولا قوة إلا بالله. فلما كبر سعد الثالثة برز أهل النجدات فأنشبوا القتال، وخرج إليهم من الفرس أمثالهم، فاعتوروا الطعن والضرب، وقال غالب بن عبد الله الأسدي:
قد علمت واردة المشائح ** ذات اللبان والبيان الواضح

أني سمام البطل المسالح ** وفارج الأمر المهم الفادح

فخرج إليه هرمز، وكام من ملوك الباب والأبواب، وكان متوجاً، فأسره غالب، فجاء به سعداً ورجع وخرج عاصم وهو يقول:
قد علمت بيضاء صفراء اللبب ** مثل اللجين إذ تغشاه الذهب

أني امرؤٌ لا من يعيبه السبب ** مثلي على مثلك يغريه العتب

فطارد فارسياً فانهزم، فاتبعه عاصم حتى خالط صفهم، فحموه، فأخذ عاصم رجلاً على بغل وعاد به، وإذا هو خباز الملك معه من طعام الملك وخبيصٌ، فأتى به سعداً فنفه أهل موقفه. وخرج فارسي فطلب البراز، فبرز إليه عمرو بن معدي كرب، فأخذه وجلد به الأرض، فذبحه وأخذ سواريه ومنطقته. وحملت الفيلة عليهم ففرقت بين الكتائب، فنفرت الخيل، وكانت الفرس قد قصدت بجيلة بسبعة عشر فيلاً، فنفرت خيل بجيلة، فكادت بجيلة تهلك لنفار خيلها عنها وعمن معها، وأرسل سعد إلى بني أسد أن دافعوا عن بجيلة وعمن معها من الناس. فخرج طليحة بن خويلد وحمال بن مالك قفي كتائبهما فباشروا الفيلة حتى عدلها ركبانها. وخرج إلى طليحة عظيم منهم، فقتله طليحة، وقام الأشعث بن قيس في كندة حين استصرخهم سعد فقال: يا معشر كندة لله در بني أسد أي فري يفرون واي هذٍّ يهذون عن موقفهم، أغنى كل قوم ما يليهم، وأنتم تنتظرون من يكفيكم، أشهد ما أحسنتم أسوة قومكم من العرب. فنهد ونهدوا معه، فأزالوا الذين بأزائهم. فلما رأى الفرس ما يلقى الناس والفيلة من أسد رموهم بحدهم وحملوا عليهم وفيهم ذو الحاجب والجالينوس، والمسلمون ينتظرون التكبيرة الرابعة من سعد، فاجتمعت حلبة فارس على أسد ومعهم تلك الفيلة فثبتوا لهم، وكبر سعد الرابعة وزحف إليهم المسلمون ورحا الحرب تدور على أسد، وحملت الفيول على الميمنة والميسرة فكانت الخيول تحيد عنها.
فأرسل سعد إلى عاصم بن عمرو التميمي: يا معشر بني تميم، أما عندكم لهذه الفيلة من حيلة؟ قالوا: بلى والله! ثم نادى في رجال من قومه رماة وآخرين لهم ثقافة فقال: يا معشر الرماة، ذبوا ركبان الفيلة عنهم بالنبل. وقال: يا معشر أهل الثقافة، استدبروا الفيلة فقطعوا وضنها، وخرج يحميهم ورحا الحرب تدور على أسد وقد جالت الميمنة والميسرة غير بعيد، وأقبل أصحاب عاصم على الفيلة فأخذوا بأذناب توابيتها فقطعوا وضنها وارتفع عواؤهم فما بقي لهم فيل إلا أوى وقتل أصحابها ونفس عن أسد وردوا فارساً عنهم إلى مواقفهم واقتتلوا حتى غربت الشمس ثم حتى ذهبت هدأة من الليل، ثم رجع هؤلاء وهؤلاء، وأصيب من أسد تلك العشية خمسمائة، وكانوا ردءاً للناس، وكان عاصم حامية للناس، وهذا اليوم الأول، وهو يوم أرماث؛ فقال عمرو بن شأس الأسدي:
جلبنا الخيل من أكناف نيقٍ ** إلى كسرى فوافقها رعالا

تركن لهم على الأقسام شجواً ** وبالحقوبين أياماً طوالا

قتلنا رستماً وبنيه قسراً ** تثير الخيل فوقهم الهيالا

الأبيات. وكان سعد قد تزوج سلمى امرأة المثنى بن حارثة الشيباني بعده بشراف، فلما جال الناس يوم أرماث، وكان سعد لا يطيق الجلوس، جعل سعد يتململ جزعاً فوق القصر، فلما رأت سلمى ما يصنع الفرس قالت: وامثنياه! ولا مثنى للخيل اليوم! قالت ذلك عند رجل ضجر مما يرى في أصحابه ونفسه، فلطم وجهها وقال: أين المثنى عن هذه الكتيبة التي تدور عليها الرحا! يعني أسداً وعاصماً. فقالت: أغيرةً وجبناً؟ فقال: والله لا يعذرني اليوم أحد إن لم تعذريني وأنت ترين ما بي! فتعلقها الناس لم يبق شاعر إلا اعتد بها عليه، وكان غير جبان ولا ملوم.

.ذكر يوم أغواث:

ولما أصبح القوم وكل سعد بالقتلى والجرحى من ينقلهم إلى العذيب، فسلم الجرحى إلى النساء ليقمن عليهم، وأما القتلى فدفنوا هنالك على مشرق، وهو وادٍ بين العذيب وعين الشمس. فلما نقل سعد القتلى والجرحى طلعت نواصي الخيل من الشام، وكان فتح دمشق قبل القادسية بشهر، فلما قدم كتاب عمر على أبي عبيدة بن الجراح بإرسال أهل العراق سيرهم وعليهم هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، وعلى مقدمته القعقاع بن عمرو التميمي، فتعجل القعقاع فقدم على الناس صبيحة هذا اليوم، وهو يوم أغواث، وقد عهد إلى أصحابه أن يتقطعوا أعشاراً، وهم ألفٌ، كلما بلغ عشرة مدى البصر سرحوا عشرة، فقدم أصحابه في عشرة، فأتى الناس فسلم عليهم وبشرهم بالجنود وحرضهم على القتال وقال: اصنعوا كما أصنع، وطلب البراز فقالوا فيه بقول أبي بكر: لا يهزم جيش فيهم مثل هذا. فخرج إليه ذو الحاجب، فعرفه القعقاع فنادى: يا لثارات أبي عبيد وسليط وأصحاب يوم الجسر! وتضاربا، فقتله القعقاع وجعلت خيله ترد إلى الليل وتنشط الناس، وكأن لم يكن بالأمس مصيبة، وفرحوا بقتل ذي الحاجب، وانكسرت الأعاجم بذلك.
وطلب القعقاع البراز فخرج إليه الفيرزان والبنذوان، فانضم إلى القعقاع الحارث بن ظبيان بن الحارث أحد بيني تيم اللات فتبارزوا، فقتل القعقاع الفيرزان وقتل الحارث البنذوان، ونادى القعقاع: يا معشر المسلمين، باشروهم بالسيوف فإنما يحصد الناس بها! فاقتتلوا حتى المساء، فلم ير أهل فارس في هذا اليوم شيئاً مما يعجبهم، وأكثر المسلمون فيهم القتل، ولم يقاتلوا في هذا اليوم على فيل، كانت وابيتها تكسرت بالأمس، فاستأنفوا عملها فلم يفرغوا منها حتى كان الغد.
وجعل القعقاع كلما طلعت قطعة من أصحابه كبر وكبر المسلمون ويحمل ويحملون، وحمل بنو عم للقعقاع عشرةً عشرة على إبل قد ألبسوها وهي مجللة مبرقعة، وأطاف بهم خيولهم تحميهم، وأمرهم القعقاع أن يحملوها على خيل الفرس يتشبهون بالفيلة، ففعلوا بهم هذا اليوم، وهو يوم أغواث، كما فعلت فارس يوم أرماث، فجعلت خيل الفرس تفر منها وركبتها خيول المسلمين. فلما رأى الناس ذلك استنوا بهم، فلقي الفرس من الإبل يوم أغواث أعظم مما لقي المسلمون من الفيلة يوم أرماث.
وحمل رجل من تميم على رستم يريد قتله فقتل دونه. وخرج رجل من فارس يبارز، فبرز إليه الأعرف بن الأعلم العقيلي فقتله، ثم برز إليه آخر فقتله، وأحاطت به فوارس منهم فصرعوه وأخذوا سلاحه، فغبر في وجوههم التراب حتى رجع إلى أصحابه. وحمل القعقاع بن عمرو يومئذٍ ثلاثين حملة، كلما طلعت قطعة حمل حملة وأصاب فيها وقتل، فكان آخرهم بزرجمهر الهمذاني. وبارز الأعور بن قطبة شهريار سجستان فقتل كل واحد منهما صاحبه، وقاتلت الفرسان إلى انتصاف النهار. فلما اعتدل النهار تزاحف الناس فاقتتلوا حتى انتصف الليل. فكانت ليلة أرماث تدعى الهدأة، وليلة أغواث تدعى السواد، ولم يزل المسلمون يرون يوم أغواث الظفر، وقتلوا فيه عامة أعلامهم، وجالت فيه خيل القلب وثبت رجلهم، فلولا أن خيلهم عادت أخذ رستم أخذاً. وبات الناس على ما بات عليه القوم ليلة أرماث، ولم يزل المسلمون ينتمون. فلما سمع سعد ذلك قال لبعض من عنده: إن تم الناس على الانتماء فلا توقظني فإنهم أقوياء، وإن سكتوا ولم ينتم الأخرون فلا توقظني فإنهم على السواء، فإن سمعتهم ينتمون فأيقظني فإن انتماءهم عن السوء.
ولما اشتد القتال، وكان أبو محجن قد حبس وقيد فهو في القصر فصعد حين أمسى إلى سعد يستعفيه ويستقيله فزبره ورده فنزل، فأتى فقال لسلمى زوج سعد: هل لك أن تخلي عني وتعيريني البلقاء؟ فلله علي إن سلمني الله أن أرجع إليك حتى أضع رجلي في قيدي. فقال:
كفى حزناً أن تردي الخيل بالقنا ** وأترك مشدوداً علي وثاقيا

إذا قمت عناني الحديد وأغلقت ** مصاريع دوني قد تصم المناديا

وقد كنت ذا مالٍ كثيرٍ وإخوةٍ ** فقد تركوني واحداً لا أخا ليا

ولله عهدٌ لا أخيس بعهده ** لئن فرجت أن لا أزور الحوانيا

فرقت له سلمى وأطلقته وأعطته البلقاء فرس سعد، فركبها حتى إذا كان بحيال الميمنة كبر ثم حمل على ميسرة الفرس ثم رجع خلف المسلمين وحمل على ميمنتهم، وكان يقصف الناس قصفاً منكراًن وتعجب الناس منه وهم لا يعرفونه، فقال بعضهم: هو من أصحاب هاشم أو هاشم نفسه، وكان سعد يقول: لولا محبس أبي محجن لقلت هذا أبو محجن وهذه البلقاء. وقال بعض الناس: هذا الخضر. وقال بعضهم: لولا أن الملائكة لا تباشر الحرب لقلنا إنه ملك. فلما انتصف الليل وتراجع المسلمون والفرس عن القتال أقبل أبو محجن فدخل القصر وأعاد رجليه في القيد وقال:
لقد علمت ثقيفٌ غير فخرٍ ** بأنا نحن أكرمهم سيوفا

وأكثرهم دروعاً سابغاتٍ ** وأصبرهم إذا كرهوا الوقوفا

وأنا وفدهم في كل يومٍ ** فإن عموا فسل بهم عريفا

وليلة قادسٍ لم يشعروا بي ** ولم أشعر بمخرجي الزحوفا

فإن أحبس فذلكم بلائي ** وإن أترك أذيقهم الحتوفا

فقالت له سلمى: في أي شيء حبسك؟ فقال: والله ما حبسني بحرام أكلته ولا شربته ولكنني كنت صاحب شرابٍ في الجاهلية، وأنا امرؤ شاعر يدب الشعر على لساني، فقلت:
إذا مت فادفني إلى أصل كرمةٍ ** تروي عظامي بعد موتي عروقها

ولا تدفنني بالفلاة فإنني ** أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها

فلذلك حبسني. فلما أصبحت أتت سعداً فصالحته، وكانت مغاضبة له، وأخبرته بخبر أبي محجن، فأطلقه فقال: اذهب فما أنا مؤاخذك بشيء تقوله حتى تفعله. قال: لا جرم، والله لا أجيب لساني إلى صفة قبيح أبداً!

.ذكر يوم عماس:

ثم أصبحوا اليوم الثالث وهم على مواقفهم، وبين الصفين من قتلى المسلمين ألفان من جريحٍ وميتٍ، ومن المشركين عشرة آلاف، فجعل المسلمون ينقلون قتلاهم إلى المقابر والجرحى إلى النساء، وكان النساء والصبيان يحفرون القبور، وكان على الشهداء حاجب بن زيد. وأما قتلى المشركين فبين الصفين لم ينقلوا، وكان ذلك مما قوى المسلمين، وبات القعقاع تلك الليلة يسرب أصحابه إلى المكان الذي فارقهم فيه من الأمس وقال: إذا طلعت الشمس فأقبلوا مائةً مائة، فإن جاء هاشم فذاك وإلا جددتم للناس رجاء وجداً ففعلوا ولا يشعر به أحد. وأصبح الناس على مواقفهم، فلما ذر قرن الشمس أقبل أصحاب القعقاع، فحين رآهم كبر وكبر المسلمون وتقدموا وتكتبت الكتائب واختلفوا الضرب والطعن والمدد متتابع، فما جاء آخر أصحاب القعقاع حتى انتهى إليهم هاشم فأخبر بما صنع القعقاع، فعبى أصحابه سبعين سبعين، وكان فيهم قيس بن هبيرة ابن عبد يغوث المعروف بقيس بن المكشوح المرادي، ولم يكن من أهل الأيام إنما كان باليرموك، فانتدب مع هاشم حتى إذا خالط القلب كبر وكبر المسلمون وقال: أول قتال المطاردة ثم المراماة؛ ثم حمل على المشركين يقاتلهم حتى خرق صفهم إلى العتيق ثم عاد.
وكان المشركون قد باتوا يعملون توابيتهم حتى أعادوها وأصبحوا على مواقفهم، وأقبلت الرجالة مع الفيلة يحمونها أن تقطع وضنها، ومع الرجالة فرسان يحمونهم، فلم تنفر الخيل منهم كما كانت بالأمس لأن الفيل إذا كان وحده كان أوحش وإذا أطافوا به كان آنس، وكان يوم عماس من أوله إلى آخره شديداً، العرب والعجم فيه سواء، ولا تكون بينهم نقطة إلا أبلغوها يزدجر بالأصوات، فيبعث إليهم أهل النجدات ممن عنده، فلولا أن الله ألهم القعقاع ما فعل في اليومين وإلا كسر ذلك المسلمين.
وقاتل قيس بن المكشوح، وكان قد قدم مع هاشم، قتالاً شددياً وحرض أصحابه، وقال عمرو بن معدي كرب: إني حاملٌ على الفيل ومن حوله، لفيل بإزائه، فلا تدعوني أكثر من جزر جزور، فإن تأخرتم عني فقدتم أبا ثور، يعني نفسه، وأين لكم مثل أبي ثور! فحمل وضرب فيهم حتى ستره الغبار وحمل أصحابه فأفرج المشركون عنه بعدما صرعوه، وإن سيفه لفي يده يصارمهم، وقد طعن فرسه، فأخذ برجل فرس أعجمي فلم يطق الجري، فنزل عنه صاحبه إلى أصحابه وركب عمرو. وبرز فارسي فبرز إليه رجل من المسلمين يقال له شبر بن علقمة، وكان قصيراً، فترجل الفارسي إليه فاحتمله وجلس على صدره ثم أخذ سيفه ليذبحه ومقود فرسه مشدود في منطقته، فلما سل سيفه نفر الفرس فجذبه المقود فقلبه عنه وتبعه المسلم فقتله وأخذ سلبه فباعه باثني عشر ألفاً.
فلما رأى سعد الفيول قد فرقت بين الكتائب وعادت لفعلها أرسل إلى القعقاع وعاصم ابني عمرو: اكفياني الأبيض، وكانت كلها آلفة له، وكان بإزائهما، وقال لحمال والزبيل: اكفياني الأجرب، وكان بإزائهما، فأخذ القعقاع وعاصم رمحين وتقدما في خيل ورجل، وفعل حمال والزبيل مثل فعلهما، فحمل القعقاع وعاصم فوضعا رمحيهما في عين الفيل الأبيض فنفض رأسه فطرح سائسه ودلى مشفره، فضربه القعقاع فرمى به ووقع لجنبه وقتلوا من كان عليه، وحمل حمال والزبيل الأسديان على الفيل الآخر فطعنه حمال في عينه فأقعى ثم استوى، وضربه الزبيل فأبان مشفره، وبصر به سائسه فبقر أنفه وجبينه بالطبرزين، فأفلت الزبيل جريحاً، فبقي الفيل جريحاً متحيراً بين الصفين كلما جاء صف المسلمين وخزوه وإذا أتى صف المشركين نخسوه. وولى الفيل، وكان يدعى الأجرب، وقد عور حمالٌ عينيه، فألقى نفسه في العتيق، فاتبعته الفيلة فخرقت صف الأعاجم فعبرت في أثره فأتت المدائن في توابيتها، وهلك من فيها. فلما ذهبت الفيلة وخلص المسلمون والفرس ومال الظل تزاحف المسلمون فاجتلدوا حتى أمسوا وهم على السواء. فلما أمسى الناس اشتد القتال وصبر الفريقان فخرجا على السواء.

.ذكر ليلة الهرير وقتل رستم:

قيل: إنما سميت بذلك لتركهم الكلام إنما كانوا يهرون هريراً. وأرسل سعد طليحة وعمراً ليلة الهرير إلى مخاضة أسفل العسكر ليقوموا عليها خشية أن يأتيه القوم منها. فلما أتياها قال طليحة: لو خضنا وأتينا الأعاجم من خلفهم. قال عمرو: بل نعبر أسفل. فافترقا وأخذ طليحة وراء العسكر وكبر ثلاث تكبيرات ثم ذهب وقد ارتاع أهل فارس وتعجب المسلمون، وطلبه الأعاجم فلم يدركوه.
وأما عمرو فإنه أغار أسفل المخاضة ورجع، وخرج مسعود بن مالك الأسدي وعاصم بن عمرو وابن ذي البردين الهلالي وابن ذي السهمين وقيس ابن هبيرة الأسدي وأشباههم فطاردوا القوم، فإذا هم لا يشدون ولا يريدون غير الزحف، فقدموا صفوفهم وزاحفهم الناس بغير إذن سعد، وكان أول من زاحفهم القعقاع، وقال سعد: اللهم اغفرها له وانصره فقد أذنت له إن لم يستأذني. ثم قال: أرى الأمر ما فيه هذا، فإذا كبرت ثلاثاً فاحملوا، وكبر واحدةً فلحقهم أسد، فقال: اللهم اغفرها لهم وانصرهم. ثم حملت النع فقال: اللهم اغفرها لهم وانصرهم. ثم حملت بجيلة فقال: اللهم اغفرها لهم وانصرهم. ثم حملت كندة فقال: اللهم اغفرها لهم وانصرهم. ثم زحف الرؤساء ورحا الحرب تدور على القعقاع، وتقدم حنظلة بن الربيع وأمراء الأعشار وطليحة وغالب وحمال وأهل النجدات، ولما كبر الثالثة لحق الناس بعضهم بعضاً وخالطوا القوم واستقبلوا الليل استقبالاً بعد ما صلوا العشاء، وكان صليل الحديد فيها كصوت القيون ليلتهم إلى الصباح، وأفرغ الله الصبر عليهم إفراغاً، وبات سعد بليلة لم يبت بمثلها، ورأى العرب والعجم أمراً لم يروا مثله قط، وانقطعت الأخبار والأصوات عن سعد ورستم، وأقبل سعد على الدعاء، فلما كان عند الصبح انتمى الناس فاستدل بذلك على أنهم الأعلون، وكان أول شيء سمعه نصف الليل الباقي صوت القعقاع بن عمرو وهو يقول:
نحن قتلنا معشراً وزائداً ** أربعةً وخمسةً وواحدا

نحسب فوق اللبد الأساودا

حتى إذا ماتوا دعوت جاهدا

الله ربي واحترزت عامدا

وقتلت كندة تركاً الطبري، وكان مقدماً فيهم.
وأصبح الناس ليلة الهرير- وتسمى ليلة القادسية من بين تلك الليالي- وهم حسرى لم يغمضوا ليلتهم كلها. فسار القعقاع في الناس فقال: إن الدائرة بعد ساعة لمن بدأ القوم، فاصبروا ساعة واحملوا، فإن النصر مع الصبر فأثروا الصبر على الجزع. فاجتمع إليه جماعة من الرؤساء وصمدوا لرستم حتى خالطوا الذين دونه مع الصبح فلما رأت ذلك القبائل قام فيها رؤساؤهم وقالوا: لا يكونن هؤلاء أجد في أمر الله منكم، ولا هؤلاء، يعني الفرس، أجرأ على الموت منكم. فحملوا فيما يليهم وخالطوا من بإزائهم فاقتتلوا حتى قام قائم الظهيرة، فكان أول من زال الفيرزان والهرمزان فتأخرا وثبتا حيث انتهيا، وانفرج القلب وركد عليهم النقع وهبت ريح عاصف فقلعت طيارة رستم عن سريره فهوت في العتيق، وهي دبور، ومال الغبار عليهم، وانتهى القعقاع ومن معه إلى السرير فعثروا به وقد قام رستم عنه حين أطارت الريح الطيارة إلى بغال قد قدمت عليه بمال فهي واقفة، فاستظل في ظل بغل وحمله، وضرب هلال بن علقمة الحمل الذي تحته رستم فقطع حباله ووقع عليه أحد العدلين، ولا يراه هلال ولا يشعر به، فأزال عن ظهره فقاراً، وضربه هلال ضربة فنفحت مسكاً. ومضى رستم نحو العتيق فرمى بنفسه فيه، واقتحمه هلال عليه وأخذ برجليه ثم خرج به فضرب جبينه بالسيف حتى قتله، ثم ألقاه بين أرجل البغال ثم صعد السرير وقال: قتلت رستم ورب الكعبة! إلي إلي! فأطافوا به وكبروا، فنفله سعد سلبه، وكان قد أصابه الماء ولم يظفر بقلنسوته، ولو ظفر فها لكانت قيمتها مائة ألف.
وقيل: إن هلالاً لما قصد رستم رماه رستم بنشابة أثبت قدمه بالركاب، فحمل عليه هلال فضربه فقتله ثم احتز وعلقه ونادى: قتلت رستم! فانهزم قلب المشركين.
وقام الجالينوس على الردم ونادى الفرس إلى العبور، وأما المقترنون فإنهم جشعوا فتهافتوا في العتيق، فوخزهم المسلمون برماحهم فما أفلت منهم مخبر، وهم ثلاثون ألفاً، وأخذ ضرار بن الخطاب درفش كابيان، وهو العلم الأكبر الذي كان للفرس، فعوض منه ثلاثين ألفاً، وكانت قيمته ألف ألف ومائتي ألف. وقتلوا في المعركة عشرة آلاف سوى من قتلوا في الأيام قبله، وقتل من المسلمين قبل ليلة الهرير ألفان وخمسمائة، وقتل ليلة الهرير ويوم القادسية ستة آلاف فدفنوا في الخندق حيال مشرق، ودفن ما كان قبل ليلة الهرير على مشرق، وجمعت الأسلاب والأموال فجمع منها شيء لم يجمع قبله ولا بعده مثله.
وأرسل سعد إلى هلال فسأله عن رستم، فأحضره، فقال: جرده إلا ما شئت. فأخذ سلبه فلم يدع عليه شيئاً. وأمر القعقاع وشرحبيل باتباعهم حتى بلغا مقدار الخرارة من القادسية، وخرج زهرة بن الحوية التميمي في آثارهم في ثلاثمائة فارس، ثم أدركه الناس فلحق المنهزمين والجالينوس يجمعهم، فقتله زهرة وأخذ سلبه، وقتلوا ما بين الخرارة إلى السيلحين إلى النجف، وعادوا من أثر المنهزمين ومعهم الأسرى، فرؤي شاب من النخع وهو يسوق ثمانين رجلاً أسرى من الفرس.
واستكثر سعدٌ سلب الجالينوس فكتب فيه إلى عمر. فكتب عمر إلى سعد: تعمد إلى مثل زهرة وقد صلي بمثل ما صلى به وقد بقي عليك من حربك ما بقي تفسد قلبه، امض له سلبه وفضله على أصحابه عند عطائه بخمسمائة.
ولما اتبع المسلمون الفرس كان الرجل يشير إلى الفارسي فيأتيه فيقتله، وربما أخذ سلاحه فقتله به، وربما أمر رجلين فيقتل أحدهما صاحبه.
ولحق سلمان بن ربيعة الباهلي وعبد الرحمن بن ربيعة بطائفة منهم قد نصبوا راية وقالوا: لا نبرح حتى نموت، فقتلهم سلمان ومن معه. وكان قد ثبت بعد الهزيمة بضع وثلاثون كتيبة استحيوا من الفرار، وقصدهم بضعة وثلاثون من رؤساء المسلمين لكل كتيبة منها رئيس. وكان قتال أهل الكتائب من الفرس على وجهين، منهم من هرب ومنهم من ثبت حتى قتل، وكان ممن هرب من أمراء الكتائب الهرمزان، وكان بإزاء عطارد، ومنهم أهوذ، وكان بإزاء حنظلة بن الربيع، وهو كاتب النبي، صلى الله عليه وسلم، ومنهم زاد بن بهيش، وكان بإزاء عاصم بن عمرو، ومنهم قارن، وكان بإزاء القعقاع؛ وكان ممن ثبت وقتل شهريار بن كنارا، وكان بإزاء سلمان ابن ربيعة، وابن الهربذ، وكان بإزاء عبد الرحمن بن ربيعة، والفرخان الأهوازي، وكان بإزاء بسر بن أبي رهم الجهني، ومنهم خشدسوم الهمذاني، وكان بإزاء ابن الهذيل الكاهلي.
وتراجع الناس من طلب المنهزمين وقد قتل مؤذنهم، فتشاج المسلمون في الأذان حتى كادوا يقتتلون، وأقرع سعد بينهم فخرج سهم رجل، فأذن. وفضل أهل البلاء من أهل القادسية عند العطاء بخمسمائة خمسمائة، وهم خمسة وعشرون رجلاً، منهم: زهرة وعصمة الضبي والكلج؛ وأما أهل الأيام قبلها فإنهم فرض لهم على ثلاثة آلاف فضلوا على أهل القادسية، فقيل لعمر: لو ألحقت بهم أهل القادسية. فقال: لم أكن لألحق بهم من لم يدركهم. وقيل له: لو فضلت من بعدت داره على من قاتلهم بفنائه. قال: كيف أفضل عليهم وهم شجن العدو! فهلا فعل المهاجرون بالأنصار هذا! وكانت العرب تتوقع وقعة العرب وأهل فارس بالقادسية فيما بين العذيب إلى عدن أبين وفيما بين الأبلة وأيلة، يرون أن ثبات ملكهم وزواله بها؛ وكانت في كل بلد مصيخة إليها، تنظر ما يكون من أمرها. فلما كانت وقعة القادسية سارت بها الجن فأتت بها أناساً من الإنس فسبقت أخبار الإنس إليهم.
وكتب سعد إلى عمر بالفتح وبعدة من قتلوا وبعدة من أصيب من المسلمين، وسمى من يعرف مع سعد بن عميلة الفزاري. وكان عمر يسأل الركبان من حين يصبح إلى انتصاف النهار عن أهل القادسية ثم يرجع إلى أهله ومنزله، قال: فلما لقي البشير سأله من أين؟ فأخبره، قال: يا عبد الله حدثني. قال: هزم الله المشركين. وعمر يخب معه يسأله والآخر يسير على ناقته لا يعرفه حتى دخل المدينة وإذا الناس يسلمون عليه بإمرة المؤمنين، قال البشير: هلا أخبرتني، رحمك الله، أنك أمير المؤمنين! فقال عمر: لا بأس عليك يا أخي.
وأقام المسلمون بالقادسية في انتظار قدوم البشير، وأمر عمر الناس أن يقوموا على أقباضهم ويصلحوا أحوالهم ويتابع إليهم أهل الشام ممن شهد اليرموك ودمشق ممدين لهم، وجاء أولهم يوم أغواث وآخرهم بعد الغد يوم الفتح فكتبوا فيهم إلى عمر يسألونه عما ينبغي أن يشار فيه مع نذير بن عمرو.
وقيل: كانت وقعة القادسية سنة ست عشرة، قال: وكان بعض أهل الكوفة يقول: إنها كانت سنة خمس عشرة، وقد تقدم أنها كانت سنة أربع عشرة.
حمضة بن النعمان بضم الحاء المهملة، وفتح الميم، وبالضاد المعجمة. بسر بن أبي رهم بضم الباء الموحدة، وسكون السين المهملة. والحوية بفتح الحاء المهملة، وكسر الواو، وقيل بالجيم المضمومة، وفتح الواو؛ والأول أصح. وحمال بفتح الحاء المهملة، وتشديد الميم. والمعنى بضم الميم، وفتح العين المهملة، والنون المشددة. وحصين بن نمير بضم الحاء، وفتح الصاد. ومعاوية بن حديج بضم الحاء، وفتح الدال المهملتين، وآخره جيم. والمعتم بضم الميم، وسكون العين المهملة، وفتح التاء فوقها نقطتان، وآخره ميم مشددة. وصرار بكسر الصاد المهملة، وبالرائين المهملتين بينهما ألف: موضع عند المدينة. وصنين بكسر الصاد المهملة، والنون المشددة بعدها ياء ساكنة معجمة باثنتين من تحتها، وآخره نون: موضع من ناحية الكوفة.
انتهى خبر القادسية.